هل يستطيع واحدنا مهما كان حصيفاً ومحيطاً بمعطيات العلاقات الدولية ان يرسم لوحة تقريبية لما ستكون عليه في قابل الأيام بين الولايات المتحدة وأوروبا، أو بينها وبين روسيا والصين، أو بينها وبين دول غرب آسيا، ولا سيما إيران وتركيا وسورية ومصر واسرائيل؟
هل بإمكانه ان يتوقع او يفهم، بحدّ أدنى من الواقعية، ماذا يريد دونالد ترامب؟ كيف يمكن ان يتصرف حيال الأحداث الاقليمية والدولية؟ او ما يمكن ان تكون عليه ردود فعل قادة الدول المعنية بأقواله وأفعاله؟
إنها مرحلة الكلمات والمخططات المتقاطعة والمتصادمة. إنه زمن اللايقين.
ليس ترامب، بفرادته وغرابته ونزقه وقلّة خبرته، المسؤول الوحيد عمّا آلت إليه العلاقات الدولية والإقليمية. ثمة نزوات شخصية ومصالح اقتصادية وغايات سياسية ونوازع ايديولوجية وعصبيات طائفية وعوامل اجتماعية في عالم اليوم تتشابك وتتصادم وتتفاعل على نحوٍ يؤدي الى نشوء اوضاع معقدة ومتحوّلة باطراد، وبالتالي عصيّة على الفهم في غالب الأحيان. لنأخذ سورية والعراق وتركيا مثلاً. هل يمكن معرفة ماذا يريد ترامب فيها ومنها؟
كان لترامب، قبل انتخابه، تغريدات لافتة حيال سياسة سلفه باراك اوباما في سورية تتعلق بمسألتيْ الأسلحة الكيميائية ونشاط تنظيم «داعش» الإرهابي. فقد أخذ على اوباما تراجعه عن التهديد بضربها بعد قيامها بتفكيك ترسانتها الكيميائية. موقفه العدائي هذا من سورية لم يتبدّل بعد قيامه، خلال حملته الانتخابية، بفضح مسؤولية بلاده، أثناء تولي منافسته هيلاري كلينتون مقاليد وزارة الخارجية، عن تسليح «داعش» ودعمه ضد حكومتَيْ سورية والعراق. غير انه عاد، بعد انتخابه، الى التشديد على خطر «داعش» وضرورة التنسيق مع روسيا وضمناً مع سورية لمواجهته. ثم أعلن ايضاً تحبيذه إقامة مناطق آمنة في شمال سورية مع علمه ان ذلك يتعارض مع موقف روسيا المؤيد لدمشق في رفض المناطق الآمنة.
تركيا ارضاها ترامب بالدعوة الى إقامة مناطق آمنة في شمال سورية، لكنه اقلقها بمتابعته سياسة اوباما في تسليح «قوات حماية الشعب الكردي» في سورية الساعية الى السيطرة على المناطق المحاذية للحدود السورية التركية بغية اقامة منطقة للحكم الذاتي فيها وربما، لاحقاً، دولة كردية بالتعاون مع أكراد تركيا والعراق. ومن المعلوم ان انقرة تعتبر حزب العمال الكردستاني التركي الذي يدعم قوات حماية الشعب الكردي السورية تنظيماً ارهابياً، فكيف يوفّق ترامب بين هذه المتناقضات كلها؟
الى ذلك، كيف توفّق تركيا تحديداً بين اتفاقها مع روسيا على مواجهة «داعش» في سورية ودعوة دمشق من جهة وممثلي التنظيمات السورية المسلحة المتمردة على دمشق من جهة أخرى لعقد مؤتمر أستانة تمهيداً لعقد مؤتمر جنيف الرامي لإرساء حل سياسي للأزمة السورية في وقت تهاجم تركيا مدينة الباب شمالي حلب للسيطرة عليها قبل وصول الجيش السوري اليها لتحريرها من سيطرة «داعش»؟ بل كيف يمكن تفسير قيام الطائرات الروسية المقاتلة بقصف القوات التركية على مشارف الباب بالرغم من اتفاق موسكو وانقرة على إرساء حل سياسي للأزمة السورية في مؤتمر جنيف المقبل؟
ثم ماذا تريد موسكو فعلاً في سورية ومنها؟ هل تريد تأبيد بقائها فيها ام تريدها ساحةً واداة للمساومة السياسية مع انقرة وواشنطن؟
ما موقف موسكو الحقيقي من الحركة الكردية في سورية؟ هل تريدها وسيلةً ايضاً للمساومة مع انقرة وواشنطن؟ ثم، لمصلحة مَن تنشط الطائرات الروسية المقاتلة في محيط مدينة الباب؟ هل لمصلحة الجيش السوري المتقدم لتحريرها من «داعش» ام لمصلحة الجيش التركي الذي ينشط لاستئخار تحريرها كي يبقى «داعش» في محيطها قوةً رادعة لقوات حماية الشعب الكردي التي تستخدمها واشنطن اداةً لتعزيز وجودها في شمال شرق سورية بذريعة المشاركة في تحرير الرقة من «داعش»؟
مَن يستطيع تفسير كل هذه الكلمات والسياسات والمخططات المتقاطعة والمتصادمة في الحرب الدائرة في سورية وعليها؟
هذا في سورية. ماذا في العراق؟
من المفترض ان تكون واشنطن مع بغداد في حربها على «داعش». لكن ما تفسير نجاح «داعش» في توسيع رقعة سيطرته في بلاد الرافدين بعد قيام التحالف الدولي، بقيادة الولايات المتحدة، بالتصدي له جواً دونما طائل طيلة سنوات ثلاث! ألم تهدد واشنطن «الحشد الشعبي» بقصفه اذا ما حاول مشاركة الجيش العراقي في تحرير مدينة الرمادي من سيطرة «داعش»؟ ألم تهدد واشنطن «الحشد الشعبي» أيضاً اذا ما حاول السيطرة على بلدة تلعفر او حاول المشاركة في تحرير مدينة الموصل تحديداً؟ هل استئخار اقتلاع «داعش» من العراق مردّه الى رغبة واشنطن في استخدامه وسيلةً في تنفيذ مخططٍ ذي ابعاد اقليمية يرمي الى اعادة ترسيم خريطة سايكس بيكو بإقامة دويلة «سنيّة» تضم محافظات العراق الغربية نينوى وصلاح الدين والأنبار ومحافظات سورية الشرقية الحسكة والرقة ودير الزور لتشكّل اسفيناً يفصل سورية عن العراق وتالياً عن إيران؟
الى ذلك، ما موقف ترامب من «تراث» ادارة اوباما في هذا المجال؟ هل يستمر في استخدام «داعش» في سياسته الأكثر تشدداً ازاء ايران والمتمثلة في محاولة تقليص نفوذها المتزايد في العراق؟ ما موقفه من وحدة العراق في سياق سعي حركات كردية في العراق وسورية وتركيا الى اقامة دولة مستقلة للاكراد في الدول الثلاث؟
ثم، ما موقف موسكو من كل هذه المخططات والتطلعات؟ هل صحيح ما يتردد عن احتمال التوصل الى صفقة ثلاثية بين ترامب وبوتن وأردوغان تتخلّى بموجبها واشنطن عن حضانة اوكرانيا ودول البلطيق عسكرياً الأمر الذي يريح موسكو فتتخلى بدورها عن دعم حكومة الرئيس بشار الاسد في سعيها لاستعادة وحدة سورية بتحرير محافظاتها الشرقية ما يريح بدوره كلاً من الولايات المتحدة وتركيا اللتين تكسبان بإقامة الدولة السنّية – الاسفين المشار اليها آنفاً وتقلّصان نفوذ ايران في سورية والعراق وتطوّقان مخاطر اقامة دولة لأكراد العراق وسورية وتركيا؟
مَن يستطيع تفسير كل هذه الكلمات والسياسات والمخططات المتقاطعة والمتصادمة في ساحات العراق وسورية وتركيا؟ ثم كيف للقوى الوطنية الحاكمة والمعارضة في الدول الثلاث أن تتفادى مخاطر وكوارث تلك السياسات والمخططات التي تعتمدها دول كبرى لحماية مصالحها او توسيعها في منطقة غرب آسيا الممتدة من الشواطئ الشرقية للبحر المتوسط الى الشواطئ الشمالية للخليج العربي الفارسي؟
لعل الجواب البديهي عن هذا السؤال هو: التنسيق والتعاون بين الدول المستهدَفة والمتضررة من تلك السياسات والمخططات، والإفادة من التناقضات القائمة بين الولايات المتحدة وروسيا وتركيا، والتحالف الوثيق بين سورية والعراق وحركات المقاومة العربية لتنسيق مواجهة السياسات والمخططات التي تستهدفها، والتعاون مع الدول المتضررة منها أيضاً كايران ومصر.
هل من نهج آخر أفضل وأفعل؟